كتب د.ناصر القدوة رئيس مجلس إدارة مؤسسة ياسر عرفات/ عضو اللجنة المركزية لحركة فتح مقالاً عن إدارة بايدن والصراع الإسرائيلي – الفلسطيني وفيما يلي نص المقال:
مع خسارة الرئيس ترامب للانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وبغض النظر عن التحديات التي تلت ذلك بما في ذلك الفوضى في واشنطن في 6 كانون الأول/ يناير الجاري، بدأت إسرائيل وأصدقاؤها بالعمل بكل جدية لوضع الأرضية السياسية الملائمة لها والاستراتيجية اللازمة لفرضها على الإدارة القادمة للرئيس بايدن.
خلال فترة ترامب، خاصة أواخر الفترة، تمثلت الاستراتيجية الإسرائيلية في شطب الحقوق الوطنية الفلسطينية، بما في ذلك دولة فلسطين، والبدء بشكل عملي في بناء "إسرائيل الكبرى" من خلال ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية، وفي حالة الاضطرار قبول كيان فلسطيني مفتت خاضع لإسرائيل باعتباره حلاً للفلسطينيين المقيمين في "إسرائيل الكبرى".
أصبح واضحاً بعد هزيمة ترامب في الانتخابات الأميركية، إن هذه الاستراتيجية لم تعد قابلة للتنفيذ، وبدأ بالتالي البحث الإسرائيلي عن استراتيجية بديلة، مع تسخير كل الإمكانيات، بما في ذلك للأسف بعض الليبراليين الإسرائيليين وآخرين في العالم. الهدف هو، بالطبع، تحقيق تقدم مع إبقاء الرؤية المشار إليها أعلاه حية للمستقبل.
يبدو أن الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة تستقر الآن باتجاه منع أي خطوات حقيقية لتنفيذ حل الدولتين ومحاولة استكمال الهدف المركزي القديم -الجديد، وهو شرعنة المستعمرات والمستعمرين، ومحاولة تجنب أي سياسات أو مواقف من الإدارة الجديدة وغيرها في مواجهة المستعمرات وتمددها. إسرائيل تقول للإدارة الجديدة بأشكال مختلفة أنها لن تقبل أي خطوات باتجاه حل الدولتين، وبالتالي فإن أي محاولة للإدارة الجديدة بهذا الاتجاه ستكون مضيعة للوقت ولن تحقق أي شيء، على غرار ما حدث مع بوش وكلينتون وأوباما وربما أسوأ. وإسرائيل وأصدقاؤها يقولون أنّ البديل عن ذلك هو خطوات صغيرة لبناء الثقة وتحسين الحالة الفلسطينية وظروف المعيشة للشعب الفلسطيني. البعض يذهب لما هو أسوأ من ذلك ليتحدث عن ضرورة الاهتمام بأمن وسلامة الموجودين في المساحة بين النهر والبحر، سواء أضافوا لذلك ما يسمى بحل الدولة الواحدة أم لا. المعنى هنا واضح والهدف البائس هو مرة أخرى محاولة شرعنة المستعمرات والمستعمرين وإسباغ الحقوق عليهم بدلاً من إدانة وجودهم والتمسك بكونهم جريمة حرب.
ما هي الاستراتيجية الفلسطينية في مواجهة ذلك. يصعب الحديث عن وجود استراتيجية بدأت تستقر وتظهر. على الأقل كاتب هذه السطور لا يعلم بذلك، هذا باستثناء المواقف التقليدية التي يعاد طرحها من آن لآخر. بالرغم من ذلك قد يكون مفيداً اقتراح بعض الأمور للمساعدة في بلورة هذا المسعى نحو الاستراتيجية الفلسطينية.
أولاً: يجب مطالبة إدارة بايدن باتخاذ مجموعة من الخطوات قبل التعامل مع مسألة الحل السياسي، وهي خطوات يمكن عنونتها "إلغاء سياسات ترامب وخطواته في الشرق الأوسط"، وهي خطوات يجب أن تكون جزءاً من السياسة العامة للإدارة الجديدة بإلغاء سياسات ترامب عموماً، والتي تشمل أموراً مثل تغير المناخ ومنظمة الصحة العالمية والناتو والاتفاق الإيراني...الخ. هذه الخطوات تتمثل في إعادة تمويل الأونروا وإعادة المساعدات للجانب الفلسطيني وإعادة فتح القنصلية الأميركية العامة في القدس، وربما إلغاء إعلان ترامب بشأن القدس ونقل السفارة، وإلغاء وسم بضائع المستعمرات كمنتج إسرائيلي، واتخاذ موقف فعال ضد النشاط الاستعماري الإسرائيلي، وأخيراً إعادة التمثيل الفلسطيني في واشنطن، والذي نأمل أن يكون بشكل قانوني وسياسي مختلف عما كان عليه. هذه خطوات لابد للإدارة الجديدة أن تقوم بها بالإضافة لموقف يؤكد تأييدها لحل الدولتين لاستعادة المصداقية وإعادة التوازن للسياسة الأميركية حول النزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، وهي خطوات لابد منها بداية حتى تفهم إسرائيل أن هذا عصر جديد، عليها أن تتعامل معه بشكل مختلف، وإلا سيكون من المستحيل تحقيق أي تقدم لاحقاً.
إسرائيل، بالمقابل ستقاوم ذلك بالطبع، خاصة موضوع إعادة فتح القنصلية العامة وموضوع المستعمرات، بالرغم من فهمها أن ما يسمى رؤية ترامب وسياسات الإدارة السابقة قد ماتت فعلياً، وهو ما يضيف سبباً ثانياً لكي تقوم الإدارة باتخاذ هذه الخطوات بشكل سريع وتحت غطاء العودة للسياسة الأميركية التقليدية وتطويرها.
بعد ذلك تأتي المهمة الأصعب، وهي العمل على التوصل لحل سياسي للنزاع. يمكن التصور بأن هذا سيتأخر نظرا للأولويات الكثيرة الملقاة على عاتق الإدارة الجديدة، مثل مقاومة وإنهاء فيروس كورونا المستجد وتحسين الأوضاع الاقتصادية والتغلب على الاستقطاب الحاد الذي سببه ترامب، بالإضافة إلى أمور خارجية متعلقة جزئياً بتغير المناخ والمنظمات الدولية والصين...الخ.
يمكن التصور أيضاً أنَّ الإدارة لن تكون متعنتة في التمسك بالمنهج الأحادي الجانب الذي يوفر احتكاراً أميركياً لأي عملية سلام، أي أنها قد تكون منفتحة على فكرة الآليات متعددة الأطراف وربما حتى بناء توافق دولي واسع حول شكل الحل. سيكون هذا بالطبع أمراً إيجابياً ومنطقياً بالرغم من أنه سيعني الحاجة لمزيد من الوقت. وسيستلزم نشاطاً فلسطينياً يبدأ بمحاولة تشكيل موقف مشترك مع بعض الدول العربية الأساسية مثل مصر والأردن والسعودية، موقف يحدد شكل الحل السياسي اللازم والذي يجب أن يكون على أساس المواقف المبدئية المتعارف عليها دولياً، مع إقران ذلك ببعض الأفكار التنفيذية الخلاّقة، وهو ما يمكن أن يجذب الدعم الدولي الواسع، بما في ذلك دعم الإدارة الجديدة. نحن نقول أنّ أساس ذلك يجب أنْ يكون وجود دولة فلسطينية على حدود 1967 وأنّ التفاوض هو بين دولتي فلسطين وإسرائيل. يمكن نصح الإدارة هنا بضرورة الاعتماد على مجموعة مبادئ مثل مبادئ كيري، ثم العمل على التوصل لاتفاق ثنائي على قاعدة هذه المبادئ. إذاً من المفهوم أنَّ الأمر سيستغرق بعض الوقت، ولكن يجب على الإدارة التمسك الحازم بحل الدولتين على أساس حدود 1967 وعدم مغازلة أي حلول أخرى، لأن الحقيقة ببساطة أنَّه لا يوجد مثل هذه الحلول.
التهاون أو التأجيل المتعمد أو الخشية من مواجهة محتملة مع الحكومة الإسرائيلية سوف يقود على الأرجح إلى كارثة في المنطقة عموماً، وسيكون لها آثارها الطويلة الأمد. إذا أظهرت فترة ترامب شيئاً فهي أظهرت مدى هشاشة الحالة المتعلقة بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وأنَّه في غياب حل حقيقي يمكن للتدهور أنْ يحدث بسرعة وبدون قاع لهذا التدهور. الإدعاء أنَّ الاتفاقيات التي جرت بين إسرائيل وبعض الدول العربية تبرهن على إمكانية تجاهل المسألة الفلسطينية، ويمكن أن تقود إلى استقرار مختلف استراتيجيا، هو ادعاء فارغ. والحقيقة هي أن هذه الاتفاقيات جاءت بعد أن مارست إدارة ترامب ضغوطاً كبيرة ودفعت مقابلاً باهظاً على أصعدة مختلفة، وخلقت بالتالي حالة غير قابلة للاستدامة. لم تستقر الأمور بعد بالنسبة لهذه الاتفاقيات وحوافزها مختلفة تماماً لكل من قاموا بعقدها، واختلاف الحوافز والأسباب هنا ينذر بالاختلافات القادمة.
وفي كل الأحوال سوف نرى ذلك في قادم الأيام، وفي كل الأحوال أيضاً فهذه الاتفاقات أو غيرها يستحيل عليها أنْ تشكل بديلاً لحل معقول على أساس الشرعية الدولية والخطوط المتعارف عليها دولياً. الضعف العام للحالة العربية يجب أنْ لا يبرر أفكاراً بلهاء حول قدرة إسرائيل للسيطرة على هذه الحالة وتوجيهها بالشكل الذي يحقق مصالحها، أو أن السبب وراء كل ذلك هو خروج الولايات المتحدة الجزئي من المنطقة. هذا أيضاً موقف يجب إعادة النظر فيه، وتغييره سيقوض الكثير من أساس ما سبق، لا تستطيع الولايات المتحدة تجاهل وجود وتدهور الكثير من مشاكل المنطقة ويجب عليها أن تتعامل معها وتحاول حلها.